الأحد، 27 مارس 2016

حقيقة القلب السليم




ماهي حقيقة القلب السليم الذي يجب أن يحتويه المؤمن ؟
قال ابن القيم: " والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة, فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره, ومن كل شهوة تعارض أمره, وسلم من كل إرادة تزاحم مراده, وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله .
قال ابن القيم: " .. القلب السليم: وهو النقي من الغل والدغل وحقيقته الذي قد سلم لله تعالى وحده فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات " . [ بدائع الفوائد : (2 /361) ].
قال ابن القيم في وصف عكوف القلب السليم على ما يقربه إلى الله: " ... وفي ذلك ما يهيج القلب السليم ويأخذ بمجامعه ويجعله عاكفا على ربه الذي لا إله إلا هو ولا رب له سواه عكوف المحب الصادق على محبوبه الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبدا " . [ طريق الهجرتين : (ص: 357) ] .
قال ابن القيم: " ... فالقلب الصحيح : هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الشعراء : 88 ] .
والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل . [ طريق الهجرتين : (ص: 353- 354) ] .
حقيقة القلب السليم:
قال ابن القيم:" الأحكام ثلاثة حكم شرعي ديني فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة بل بالانقياد المحض وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر ... [ طريق الهجرتين : (ص: 66) ] .
قال ابن القيم في حديثه عن حياة القلب وصحته" لما كان في القلب قوّتان: قوّة العلم والتمييز، وقوّة الإرادة والحب: كان كماله وصلاحه باستعمال القوتين فيما ينفعه، ويعدو عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق، ومعرفته ، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثره غيره عليه فهو مغضوب غليه. ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه. " [ رسالة في أمراض القلوب : ص(24) ] .

ضوابط الاتصاف بسلامة القلب:
قال ابن القيم: " ... ولا يتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد, وبدعة تخالف السنة, وشهوة تخالف الأمر, وغفلة تناقض الذكر, وهوى يناقض التجريد, والإخلاص يعم، وهذه الخمسة حجب عن الله, وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراد الأشخاص لا تحصر، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم"
قال المحاسبي: " خصلة واحدة من الخصال لا نقص معها لعارف في كل حال، وهي التيقظ. وخلة لا زيادة معها لعارف ولا جاهل، وهي الغفلة والنسيان " [ المسائل في أعمال القلوب والجوارح : (ص:128) ] .
وقال : " أسرع الأشياء إزالة لغلظ القلب، وانكسارا له ذكر اطلاع الله عزّ وجلّ عليه بالتعظيم " [ المسائل في أعمل القلوب والجوارح : (ص:130) ].
قال المحاسبي: " أعون الأشياء على مخالفة النفس ترك الشهوات، والشوق إلى جوار العزيز الكبير، وأشد الأشياء إزالة للمكاثرات، في علو الدرجات، في منازل العبادات لزوم القلب محبة الرحمن عزّ وجلّ " [ المسائل في أعمل القلوب والجوارح (ص:131) ].
قال المحاسبي: " وأطهر الأشياء لقلوب المريدين التوبة النصوح، للعرض على رب العالمين، وتلك طهارة المتقين ومن بعدها طهارة المحبين، وهي قطع الاشتغال بشيء من الدنيا عن محبوبهم، فإذا طهر القلب من كل شيء سوى الله عزّ وجلّ خلا من ذكر كل قاطع عن الله، وزال عنه كل حاجب يحجبه عنه، فتم بالله سروره، وصفا ذكره في قلبه، فاستنار له سبيل الاعتبار، فكانت الدنيا وأهلها عيناً ينظر بها إلى ستر ما يحجب عن الملكوت فحينئذ دام بالله شغله، وطال إليه حنينه، وقرت بالله عينه. فالحزن والكمد كسرا قلبه، والمحبة والشوق قد أسخطا قلبه على الدنيا فشوقه إلى طلب القرب، وحزنه لفوات المحبة خشية أن يحال بينه وبينها " [ المسائل في أعمال القلوب والجوارح : (ص: 132-131) ] .
ذكر ابن رجب أن: " الحسن قال لرجل : داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم " [ جامع العلوم والحكم (8 / 26) ] بتصرف طفيف.
قال ابن رجب: " فلا صلاحَ للقلوب حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ ، وتمتلئَ مِنْ ذَلِكَ ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد ، وهو معنى (( لا إله إلا الله )) ، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله ، لفسدت بذلك السماوات والأرض ، كما قالَ تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا }.
فعلم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَم العلويِ والسُّفليّ معاً حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله " جامع العلوم والحكم (8 / 26).
وقال: " وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلب وإرادته ، فإنْ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه ، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كلِّه ، وإنْ كانت حركةُ القلب وإراداته لغيرِ الله تعالى فسدَ ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فسادِ حركة القلب " [ جامع العلوم والحكم (8 / 26) ] .
قال ابن رجب: " إنَّ حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهراً وباطناً ، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه ، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه وإنْ لم يتيقن ذلك . [ جامع العلوم والحكم : (8 / 28) ] .



وظيفة القلب السليم:
قال ابن القيم: " وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء : آخر أمر المتكلمين الشك وآخر أمر المتصوفين الشطح والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد ولذلك أنزله من تكلم به وجعله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده ويرغب عما يضره فيصير القلب محبا للرشد مبغضا.. " [ إغاثة اللهفان - (ص: 45) ]
قال ابن القيم: " فالقلب الصحيح السليم : ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له" [ إغاثة اللهفان : (ص: 10) ] .
قال المحاسبي: " وأسرع الأشياء استثارة للخوف من قلب العارف ذكر سالف الذنوب، مع ذكر الخشية من حلول الغضب عليه من أجلها " [ المسائل في أعمال القلوب والجوارح (ص:130) ] .
وقال: " وأسرع الأشياء إزالة للاشتغال بالدنيا عند المعاينة والمباشرة الاعتبار بها ، والنظر لما غاب من الآخرة " [ المسائل في أعمل القلوب والجوارح (ص:130) ] .
وقال: " وأسرع الأشياء هيجانا لتعظيم الله عزّ وجلّ تأمل الآيات والدلائل في التدابير المحكمة والصنعة المتقنة، من السماء والأرض، وما فيهما من دلائل باطنة، وشواهد واضحة، وأن الذي صيرها عظيم قدره، نافذة مشيئته، عزيز في سلطانه " [ المسائل في أعمل القلوب والجوارح (ص:131) ] .
وقال: " وأشد الأشياء إماتة للشهوات لزوم الأحزان للقلب. وأكثر الأشياء نشاطا للقب: الكمد من بعُد الحزن " [ المسائل في أعمل القلوب والجوارح (ص:131) ] .

ثمرة القلب السليم:
قال ابن رجب: " فإنْ كان قلبُه سليماً ، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله ، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها ، وتوقي للشبهات حذراً مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات .
وإنْ كان القلبُ فاسداً ، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه ، وطلب ما يحبُّه ، ولو كرهه الله ، فسدت حركاتُ الجوارح كلها ، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب .
ولهذا يقال : القلبُ مَلِكُ الأعضاء ، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه ، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً ، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً ، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم " [ جامع العلوم والحكم (8 / 24) ] .
وقال ابن رجب في حديثه عن استقامة الإيمان: " والمراد باستقامة إيمانه : استقامةُ أعمال جوارحه، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب: أنْ يكونَ ممتلئاً مِنْ محبَّةِ الله، ومحبَّة طاعته ، وكراهة معصيته " [ جامع العلوم والحكم (8 / 25) ] .
قال الحسن : " ما نظرتُ ببصري ، ولا نطقتُ بلساني ، ولا بطشتُ بيدي ، ولا نهضتُ على قدمي حتّى أنظر على طاعةٍ أو على معصية ، فإنْ كانت طاعةٌ تقدمت ، وإنْ كانت معصية تأخَّرت " [ جامع العلوم والحكم (8 / 28) ] .

أهمية سلامة القلب وفضله:
وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة القلب فقال { وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم } وقال حاكيا عنه أنه قال { يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } . [ الجواب الكافي : (ص: 84) ] .
قال ابن القيم: " .. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد"
جعلنا الله من أصحاب القلوب السليمة الخالية من عوامل الحقد والكراهية




حقيقة القلب السليم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق